الرئيسية|نور الرياض|النسخة الثالثة 2023

قمرا على رمال الصحراء

شعار المعرض: الإبداع ينورنا, والمستقبل يجمعنا

قمرًا على رمال الصحراء

بتقيم فني جيروم سانس، وبيدرو ألونزو، وآلاء طرابزوني، وفهد بن نايف

نور الرياض هو أحد أكبر الاحتفالات من نوعها في العالم، يحتفي بالضوء والفنِّ والإبداع على مستوى العاصمة السعودية النابضة بالحياة، بما يُحول مشهدها الحضري إلى متحف مفتوح. تأتي نسخة هذا العام من الاحتفال، قمرًا على رمال الصحراء، كتداخل عمراني عاصف يضع المدينة سريعة النمو في عالمٍ كامل من التحولات. وفي خضم هذه التحولات المتسارعة، يسعى إلى كتابة قصة تنتشر في عدة مواقع، مثل السيمفونية مختلفة الحركات التي تتكشف في كل من النهار والليل.

يُقام المعرض في العاصمة المتروبوليتية المزدهرة وسط الصحراء الشاسعة في محيطها، ويتخذ من الصحراء مكانًا للتواصل المتجدد تتبدد فيه الاختلافات. مثل السراب، يضلنا ضوء الصحراء بقدر ما يرشدنا، ويخدعنا بقدر ما يذهلنا، فهو قادر في شدته على الإبهار العقلي والبصري لرائيه، ويتمتع بهالة غامضة تكاد تكون إعجازية. تنكسر الأشعة المُنسدلة، وتبدو كأنها تنحني مرة أخرى تجاهنا، تكشف عن النور غير الساكن الذي يتحرك حول الأثير، كما لو كان يزرع بذورًا أو يسقي الأراضي اليابسة والمستوية. تُعد الرياض، بشكل خاص، عُرضة لهذا الوهم البصري الذي يرمز إلى ما هو مرئي ولكن يصعب الوصول إليه، وتتحول المدينة إلى حديقة غير مادية؛ حيث يُعتبر الضوء قوة كونية تبني عالمنا المعاصر وعلاقاته التبادلية.

تم تصميم الاحتفال كمنصة دون مسار مُحدد مسبقًا، بلا بداية أو نهاية، يجد الزائر حريته في تحديد شكل تجربته، بحيث يُكوِّن سرديته الذاتية ويربط الأعمال الفنية معًا بطريقته الخاصة. لا يمكن تأويل نطاق المشروع من منطلق واحد، فهو يتبع رؤية أمبرتو إيكو عن شعرية العمل المفتوح، ويرفض أي مَرتبية هرمية بين الأعمال الفنية، أو أي توجه مهيمن في القصة من شأنه أن يربطها جميعًا معًا. يُطور الاحتفال مقاربة مختلفة تجاه شكل المعرض المتعارف عليه، وذلك نتيجة للفرصة النادرة التي أتاحت له مفاتيح المدينة، فيحفز الزائر على التجول والتيه اللاهادف، والانفصال عن الزمان والمكان طوال فترة إقامة المعرض، يزوره مرة ثم يعود كما يحلو له، ليأخذ قسطًا من الراحة وسط انخراطه في سباق الحداثة اليومي. يطرح قمرًا على رمال الصحراء نفسه باعتباره بيانًا ومانيفستو يشجع على التريث في خضم سياق معاصر صُممت فيه المدن لدمج السرعة في عادات أولئك الذين يعبرونها، حتى يتمكن مواطنوها من التنقل في شوارعها بأسرع ما يمكن، يُبطئ الاحتفال من هذا التدفق الضمني من خلال تسطير التأملات والشعر والتمهل داخل النسيج الحضري. وبالتالي، يُعيد المعرض المُقام على مستوى المدينة السحر للمَناظر ويخلق سيناريوهات لحظية جديدة تمامًا، مثل السراب.

يُرى الضوء عنصرًا طبيعيًّا حيويًّا، وفي الوقت ذاته يصبح مصطنعًا أكثر فأكثر. بدءًا من النيران الأولى التي سمحت للبشرية بالاستقرار والتطور وحتى سطوع الشاشات التقنية الحديثة في يومنا هذا، كان الضوء مرشدًا لتاريخ البشرية إلى أن أصبح أيقونة مرئية شاملة تعبر عن عالمنا الحديث، تمتد به نهاراتنا حتى وبعد غروب الشمس، ويغطي على المساحات الرمادية الظليلة بما يتيح للمدن بأن تظل في حالة تيقُّظ دائمة. يربط الإنترنت وشبكته العالمية بيئاتنا الحديثة ببعضها البعض ويبنيها مغمورة بالمعلومات والتحفيز البصري والترفيه الجماهيري، فتظل المشاهد المادية والافتراضية دائمة الحضور وتتبين الليالي بعيون مفتوحة، ومثل المصباح السحري، يتحكم بالعالم ويجعله شاسعًا لا منقطعًا ولا نهائيًّا. إذا تم فصل الكابل العُمومي، وحرمان البشرية من هذه الطاقة المُشعة المُلزمة، فإن مسار حياتنا والعالم كما نعرفه الآن سيتوقف على الفور، مضطربًا بشكل لا يمكن تصوره. يقع الضوء في صميم بنية المجتمع، ويغذي عالمنا سواء كان ذلك اقتصاديًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو ثقافيًّا.

لطالما حاولت البشرية الابتعاد عن الظلام، متخوِّفة من الليل وما قد يمثله، بناءً على أساطير لا حصر لها. لهذا يظل الطفل الصغير متنبِّهًا فاغر العين في الليل، خائفًا من الغموض الكامن والمجهول، مثلما خلط الرجال في الكهف الحقيقة بالوهم، ولم يتمكنوا من رؤية شيء سوى ظلالهم الملقاة بسبب النار المشتعلة خلفهم في الحكاية الأفلاطونية القديمة. أشاد الفيلسوف اليوناني القديم، أفلاطون، بالضوء لقدرته على جعلنا "نرى بشكل أكثر واقعية"، فإن طُرقنا في وصف المعرفة اليوم لا تزال مرتبطة بشكل معقد بالمجال المعجمي للضوء، فهو يقودنا للخروج من الكهف الأفلاطوني، وهو الصورة النهائية للحقيقة؛ بعد الخروج من الظلام ينبثق الضوء، عابرًا من عالم المحسوس إلى عالم المعقول. النور هو واهب الحياة والأمل. يتحدى هذا المعرض، الذي يُضيء بشكل استثنائي مدينة متوهجة بالفعل، على مدار سبعة عشر يومًا، الغموض، ويضاعف مصادر النور بكوكبة من المعالم المضيئة الجديدة. تضيء الأعمال الفنية بشكلٍ آسر وتقاوم الظلمة بوضوح، لتعلن عن الإمكانيات المبهرة للثقافة وضرورتها القصوى لتفادي العيش غرقًا في غياهب النسيان في عالم خالٍ من الفن.

تشير صورة الصحراء إلى وفرة الحقائق الهائلة التي تتواجد كلها بالتوازي في حياة المرء، مذكرةً بالكون المتحول في هيئته الواسعة واللامتناهية، إضافة إلى التقنيات الجديدة المعاصرة مثل الصور المجسمة و الواقع المعزز، أو الذكاء الاصطناعي. يُدفع البشر يوميًّا من المساحات المادية تجاه المساحات الافتراضية، ويتنقلون باستمرار من واقع إلى آخر، ويجدون أنفسهم اليوم في مواجهة مجموعة من الفجوات التي يمكنهم اختراقها. هذا الحراك الشديد يتحدى فكرة تشكيل الواقع في حد ذاتها، وفي الوقت نفسه يؤدي أيضًا إلى زيادة إمكانياته، حتى في حالة ثباته في محله. أما الصحراء، فهي استعارة مجازية مُعبرة عن عالمنا المعاصر، تُشير إلى المدن الكبرى؛ حيث يغمر تدفق المعلومات المرء بسهولة. في هذا العالم المترابط للغاية، يصبح الأفراد منفصلين عن بعضهم البعض كما لم يكونوا مطلقًا، يجد البشر أنفسهم معزولين، زائلين في وجه التعددية الجماهيرية، كما لو كان وجودهم مرهونًا بمساهمتهم في الصورة الأكبر. تقترن المفارقة في عدم الكشف عن هوية الإنسان وسط الحشود، بسهولة الوصول إلى الشهرة، حتى ولو بشكل عابر، فقد أصبح الحصول على خمسة عشر دقيقة من الشهرة الوارهولية ممكنًا بفضل وسائل التواصل الاجتماعي. يُحور المعرض رؤية الصحراء كقوة خارجة عن السياق تدفعنا إلى إعادة التفكير في علاقاتنا، وإعادة النظر في عدم الكشف عن هويتنا كوسيلة للتواصل.

يسعى قمرًا على رمال الصحراء إلى إعادة توجيه تنوع عالمنا ليُكوِّن تجربة مشتركة تتجلى من خلال الأعمال الفنية، مع استيعاب التقدم التكنولوجي والاهتمام بتطور إدراك الإنسان بالضوء؛ يُعارض ميولنا نحو الفردية ويحتفل بالنور المشترك الذي يوحدنا ويمدنا بالدفء والراحة. يعلن بصخب، كأنه بيان شعري مضيئ، أننا "نعيش جميعًا تحت نفس السماء".

الفنانون